أخبار مهمةخطبة الأسبوعخطبة الجمعةخطبة الجمعة خطبة الأسبوع ، خطبة الجمعة القادمة، خطبة الاسبوع، خطبة الجمعة وزارة الأوقافعاجل

خطبة بعنوان: “رعاية المسنين في الإسلام”، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 21 من صفر 1439هـ الموافق 10 من نوفمبر 2017م

خطبة بعنوان: “رعاية المسنين في الإسلام“، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 21 من صفر 1439هـ الموافق 10 من نوفمبر 2017م.

لتحميل الخطبة بصيغة word  أضغط هنا.

لتحميل الخطبة بصيغة  pdf أضغط هنا.

ولقراءة الخطبة كما يلي:  

 

عناصر الخطبة:

العنصر الأول: اهتمام الإسلام بالمسنين مسلمين وغير مسلمين

العنصر الثاني: مظاهر التيسير ورفع الحرج عن المسنين في الشريعة الإسلامية

العنصر الثالث: رعاية الوالدين في الإسلام صور ونماذج بين الماضي والحاضر

     المقدمة:                                                            أما بعد:

العنصر الأول: اهتمام الإسلام بالمسنين مسلمين وغير مسلمين

عباد الله: لقد اهتم الإسلام اهتماماً كبيراً بالمسنين وكبار السن والشيوخ؛ وذلك لأنهم في مرحلة الضعف العمرية؛ والإنسان أحوج ما يكون للعون والمساعدة في هذه المرحلة؛ وقد أشار القرآن الكريم إلى مراحل الإنسان العمرية في قوله تعالى:{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} ( الروم : 54). وقد قيل قديماً: أن الطفولة قوةٌ لا عقل لها؛ وأن الشيخوخة حكمةٌ لا قوة لها، والشباب يجمع الاثنين القوة والحكمة.

وقد حثنا صلى الله عليه وسلم على رعاية المسنين وذوي الشيب وكبار السن؛ فعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :” إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ؛ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ؛ وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ”. (أبو دواد والطبراني بسند حسن). وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :” مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلَّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ “. ( الطبراني والبيهقي والترمذي بسند فيه ضعف).

إن الإسلام حفظ للإنسان كرامته، ووفى بحقه، فأمر بإكرامه عند شيبته وحث على القيام بشؤونه، وهو النموذج الذي جسدته ابنتا شعيب عليه السلام اللتان قالتا: {لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} (القصص: 23).

أيها المسلمون: لقد ضرب لنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أروع الأمثلة في حسن التعامل مع كبار السن والرفق بهم؛ ومن ذلك توقيره ورفقه بأبي قحافة والد أبي بكر الصديق – رضي الله عنه -: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحًا (في رمضان 8هـ/ يناير 630م)، ودخل المسجد الحرام، أتى أبو بكر بأبيه يقوده إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، ليبايع ويسلم؛ فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صاحب الخلق العظيم: “هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه؟!” قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، هو أحق أن يمشى إليك من أن تمشى أنت إليه!! فأجلسه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بين يديه، وأكرمه، ثم مسح على صدره، ثم قال: “أسلم” فأسلم. ودخل به أبو بكر وكان رأسه كالثغامة بياضًا من شدة الشيب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -في تلطف جم وذوق رفيع-: “غيّروا هذا من شعره!” ( السيرة النبوية لابن كثير ). وهو القائل صلى الله عليه وسلم: ” لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا” [ أحمد والترمذي والحاكم وصححه ].

وعلى هذا الدرب سار صحابته الكرام – رضي الله عنهم – فهذا أبو بكر الصديق كان يتعهد امرأة عجوزاً عمياء في المدينة يقضي لها حاجاتها سراً إبان خلافته للمسلمين، وكان يحلب لأهل الحي أغنامهم، فلما استخلف وصار أمير المؤمنين قالت جارية منهم -يعني من نساء الحي- بعد أن صار أبو بكر خليفة: الآن لا يحلبها. تقول: لقد صار قائد الدولة وأمير المؤمنين يسير الجيوش ويتحمل المسئوليات هل يلتفت إلى غنمنا ويحلبها؟ الآن لا يحلبها، فسمع بذلك أبو بكر رضي الله عنه فقال: بلى، وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه عن شيء كنت أفعله.(جامع العلوم والحكم لابن رجب) .

 وكان عمر يتعاهد الأرامل والمسنين من العجائز ؛ يستقي لهن الماء بالليل، ورآه طلحة بالليل يدخل بيت امرأة عجوزاً ، فدخل إليها طلحة نهاراً، فإذا هي عجوز عمياء مقعدة، فسألها: ما يصنع هذا الرجل عندك؟ قالت: هذا مذ كذا وكذا يتعاهدني يأتيني بما يصلحني، ويخرج عني الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمك طلحة، عثرات عمر تتبع؟! (أبو نعيم في الحلية).

وهذه امرأة عجوز تدعى خولة بنت ثعلبة ؛ ذات يوم مرت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه أيام خلافته، وكان خارجاً من المنزل، فاستوقفته طويلاً ووعظته قائلة له: يا عمر، كنت تدعى عميراً، ثم قيل لك عمر، ثم قيل لك يا أمير المؤمنين، فاتّق الله يا عمر… فإن من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب… وعمر رضي الله عنه واقف يسمع كلامها بخشوع، فقيل له: يا أمير المؤمنين، أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف كله؟!! فقال عمر: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت “إلا للصلاة المكتوبة”، ثم سألهم: أتدرون من هذه العجوز؟ قالوا: لا. قال رضي الله عنه: هي التي قد سمع الله قولها من فوق سبع سماوات.. أفيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟!!”رضي الله عنه وأرضاه. ( السيوطي في الدر المنثور) فأين نحن من هذه القيم؟!

عباد الله: إن الإسلام حثنا على الأخلاق العالية والبر والإحسان مع المسنين مسلمين وغير مسلمين ؛ حتى في الحروب والغزوات!! ففي الحرب التي تأكل الأخضر واليابس وتزهق فيها الأرواح وتدمر المدن والقرى ويموت الصغير والكبير؛ أمر الإسلام بحسن معاملة الضعفاء من الأطفال والنساء والشيوخ المسنين. فقد روى مسلم في صحيحه عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: ” كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا”؛ فلا يجوز أن يُقصد بالقتال مَن ليسوا بأهل له، كالنِّساء والأطفال والشُّيوخ، والزَّمنى والعُمي والعَجَزة، والذين لا يُباشرونه عادةً كالرُّهبان والفلاَّحين، إلاَّ إذا اشترك هؤلاء في القِتال وبدؤوا هم بالاعتداء، فعندها يجوز قتالُهم.

وهذا أبو بكر – رضي الله عنه – لَمَّا بعث يزيد بن أبي سفيان إلى الشام على ربع من الأرباع، خرج – رضي الله عنه – معه يُوصيه، ويزيد راكب وأبو بكر يَمشي. فقال يا يزيد: …… لا تَقتلوا كبيرًا هَرمًا، ولا امرأة، ولا وليدًا. ولا تُخرِّبوا عمرانًا، ولا تقطعوا شجرة، إلاَّ لنفع، ولا تعقرنَّ بهيمةً إلاَّ لنفع، ولا تُحرِّقنَّ نخلًا، ولا تُغرقنَّه، ولا تَغدِر، ولا تُمثِّل، ولا تجبن، ولا تغلل، ولينصرن الله مَن ينصره ورسلَه بالغيب، إنَّ الله قويٌّ عزيز”[البيهقي في الكبرى] .

 هذه صور حسن معاملة الضعفاء والمسنين في حال الحرب؛ فما بالك في حال السلم؟!!

انظر إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- حين مرَّ بباب قوم وعليه سائل يسأل : شيخ كبير ضرير البصر ، فضرب عضده من خلفه وقال : من أي أهل الكتاب أنت؟! قال : يهودي ، قال : فما ألجأك إلى ما أرى ؟! قال : أسأل الجزية والحاجة والسن ، قال : فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال : انظر هذا وضرباءه  فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم” إنما الصدقات للفقراء والمساكين ” والفقراء هم المسلمون ، وهذا من المساكين من أهل الكتاب ، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه.( الخراج لأبي يوسف ).

أبعد كل هذا التسامح وحسن المعاملة للمسنين والضعفاء من المسلمين وغير المسلمين يُتهم الإسلام بأنه دين تطرف وعنف وإرهاب !!

العنصر الثاني: مظاهر التيسير ورفع الحرج عن المسنين في الشريعة الإسلامية

أيها المسلمون: إن من مقاصد الشريعة الإسلامية التيسير ورفع الحرج عن المرضى والمسنين والمسافرين، لذلك شُرع قصر الصلاة والجمع بين الصلاتين للمسافر، وغير ذلك من صور  التخفيف في العبادات كما سيأتي بيانه.

ولأهمية التيسير في الشريعة الإسلامية جعلت له قاعدة جليلة في الفقه وأصوله وهي: ” المشقة تجلب التيسير ” ؛ والمراد بالقاعدة: أن الأحوال التي تحصل فيها مشقة أو حرج على المكلف عند تطبيقه بعض الأحكام الشرعية، فإن الشريعة تأتي برفع هذا الحرج والمشقة، وذلك بتخفيف الحكم عليه؛ فالحرج مدفوع قبل وقوعه، وإذا وقع رُفع بأمر الشارع{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].

وجعل الإسلام للمرضى المسنين وغيرهم تشريعات خاصة بهم، وحطّ عنهم الإثم في ترك ما لا يقدرون عليه؛ قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286).

ومن تلك التشريعات: إباحة الفطر في رمضان للمسن، والمريض الذي لا يقوى على الصوم، وإذا صام أضر ذلك بصحته قال سبحانه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (البقرة: 184) . قال بعض العلماء: أي وعلى الذين لا يطيقونه فدية. والفدية تكون إطعام مسكين عن كل يوم يفطر فيه من رمضان . قال ابن عباس: لا يُرخص في هذا إلا للذي لا يطيق الصيام أو مريض لا يُشفى. (رواه النسائي).

وحثنا على التخفيف في الصلاة ولا سيما في وجود كبار السن وأصحاب الشيخوخة؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” إِذَا أَمَّ أَحَدُكُمْ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمْ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَالْمَرِيضَ ؛ فَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ”. ( متفق عليه ).

ورخص الإسلام للمسن المريض التخلف عن صلاة الجماعة، قال صلى الله عليه وسلم : “من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر” – قالوا: وما العذر؟ قال : “خوف أو مرض لم تُقبل منه الصلاة التي صلى” . ( أبو داود والبيهقي والحاكم بسند صحيح).

بل رخّص للمريض – والمسن غالباً ما يصيبه المرض – أن يصلي بالكيفية التي يستطيعها إن تعذر عليه أو شق القيام، وأداء الصلاة بالشكل الطبيعي ؛ فإن لم يستطع أن يصلي قائماً قعد ؛ فإن لم يستطع قاعداً فعلى جنبه، قال صلى الله عليه وسلم لمريض به بواسير: “صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً ؛ فإن لم تستطع فعلى جنب” ( البخاري).

وعَنْ أَنَسٍ ، قَالَ : ” دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ ، وَحَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ ، فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : لِزَيْنَبَ تُصَلِّي ، فَإِذَا كَسِلَتْ أَوْ فَتَرَتْ أَمْسَكَتْ بِهِ ، فَقَالَ : حُلُّوهُ ، ” لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ ، فَإِذَا كَسِلَ أَوْ فَتَرَ ، قَعَدَ “.( متفق عليه ).

وفي شعيرة الحج؛ شرع الإسلام الحج وأوجبه على المستطيع، فإن بلغت بالرجل السن فشاخ وهَرِم فلم يستطع الحج لم يجب عليه الحج، لكنه مقصر لأنه أخره إلى وقت لا يستطيعه فيه، ما لم يكن أخَّره لعذر، وحين زال العذر بلغ الهرم وخارت قواه ولم يملك مالاً ليُنيب عنه غيره فعندها فقط يسقط عنه الحج .

عباد الله: إن ديننا الحنيف دين اليُسر والرحمة، فالنبي بُعث بالحنيفية السمحة، فأصل الدين قائم على اليسر وعدم المشقة، فالتيسير على العباد مراد لله، والمشقة لا يريدها الله لعباده: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }[البقرة: 185].

 فالمسلم لا يثاب على المشقة؛ إلا إذا كان لا يمكن أن يأتي بالعبادة إلا بها، فيؤجر على المشقة إذا كانت وسيلة للعبادة، أما تقصُّد المشاقِّ وطلبها، فلا يؤجر عليها المسلم، وكيف يؤجر على شيء لا يريده الله منا ولا يرضاه؟!

العنصر الثالث: رعاية الوالدين في الإسلام صور ونماذج بين الماضي والحاضر

أيها المسلمون: إذا كان الإسلام اهتم بالمسنين وأولاهم رعاية كاملة؛ فإن هذه الرعاية تكون آكدة ومضاعفة للأجر إذا كانت هذه الرعاية للوالدين؛ لأن المسن القريب له حقان: حق الرعاية العامة؛ وحق القرابة؛ وذلك قياساً على حقوق الجار .

لذلك حثنا الشارع الحكيم على الإحسان إليهما ولا سيما في مرحلة الكبر والشيخوخة؛ قال تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [الإسراء: 23-24]. واعتبر الإسلام ذلك شكراً لهما على ما قدماه لك من معروف وتربية ورعاية في حال صغرك؛ قال تعالى: { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } (لقمان: 14) . فانظر رحمك الله كيف قرن شكرهما بشكره تعالى.

 قال ابن عباس رضي الله عنهما: ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث لا تقبل منها واحدة بغير قرينتها أي إحداهما. قول الله تعالى: ” أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ” فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه. الثانية قول الله تعالى: ” وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ” فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه. الثالثة قول الله تعالى: ” أن اشكر لي ولوالديك ” فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه. ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” رضا الله في رضا الوالدين وسخط الله في سخط الوالدين ” .(البزار والبيهقي بسند حسن).

أيها المسلمون: إن الإنسان إذا أهمل أبويه ولم يقم برعايتهما ولا سيما في حال الكبر والضعف والشيخوخة؛ فإنه بعيد عن رحمة الله وعن جنته؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، ” أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَى الْمِنْبَرَ ، فَقَالَ : آمِينَ ، آمِينَ ، آمِينَ ” ، قِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا كُنْتَ تَصْنَعُ هَذَا ؟ فَقَالَ : قَالَ لِي جِبْرِيلُ : رَغِمَ أَنْفُ عَبْدٍ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا لَمْ يُدْخِلْهُ الْجَنَّةَ ، قُلْتُ : آمِينَ ، ثُمَّ قَالَ : رَغِمَ أَنْفُ عَبْدٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ ، فَقُلْتُ : آمِينَ ، ثُمَّ قَالَ : رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ ، فَقُلْتُ : آمِينَ ” .( أحمد والطبراني والترمذي وحسنه).

أحبتي في الله: إن الإسلام جعل الإحسان إلى الوالدين والسعي عليهما جهاداً في سبيل الله؛ فعَنْ كَعْبِ بن عُجْرَةَ، قَالَ: مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ r رَجُلٌ، فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ r مِنْ جِلْدِهِ وَنَشَاطِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:”إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ”. ( الطبراني بسند صحيح ).

كما أن الإحسان إلى الوالدين وبرهما طريقٌ إلى الجنة؛ فقد جاء رجل إلى النبي “صلى الله عليه وسلم” فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو, وقد جئت أستشيرك, فقال: «هل لك من أم؟» قال: نعم، قال: «فالزمها فإن الجنة عند رجليها».( أحمد والنسائي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي).

لذلك قال حميد: لما ماتت أم أياس بن معاوية: بكى , فقيل له: ما يبكيك؟ قال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة , وأُغلق أحدهما.

ومن عجيب ما جاء به الإسلام أنه أمر ببر الوالدين والإحسان إليهما حتى في حالة الشرك, فقد سألت أسماء بنت أبى بكر النبي “صلى الله عليه وسلم” عن صلة أمها المشركة، وكانت قدمت عليها, فقال لها: «نعم, صلي أمك».(متفق عليه).

عباد الله: تعالوا لنعرض لكم صوراً مشرقةً لسلفنا الصالح وكيف كانوا بارين بآبائهم وأمهاتهم مقارنةً بواقعنا المعاصر :

 فقد رأى ابن عمر  – رضي الله عنهما – رجلاً يطوف بالكعبة حاملا أمه على رقبته فقال : يا ابن عمر أترى أني جزيتها ؟ قال : لا! ولا بطلقة واحدة ولكنك أحسنت والله يثيبك على القليل كثيراً .

وكان علي بن الحسن: لا يأكل مع والديه فقيل له في ذلك؟! فقال: لأنه ربما يكون بين يدي لقمة أطيب مما يكون بين أيديهما وهما يتمنيان ذلك , فإذا أكلت بخست بحقهما!!

وهذا أبو هريرة كانت أمّه في بيت وهو في آخر، فإذا أراد أن يخرج وقف على بابها فقال: السّلام عليك يا أمّاه ورحمة الله وبركاته. فتقول: وعليك يا بنيّ ورحمة الله وبركاته، فيقول: رحمك الله كما ربّيتني صغيرا. فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيرا. (الأدب المفرد للبخاري).

وعن محمد بن المنكدر رحمه الله تعالى أنه قال: “بِتُّ أَغْمِزُ رِجْلَ أُمِّي، وَأخي عُمَرُ يُصَلِّي الليلُ ، وَمَا أُحِبُّ أنَّ لَيْلَتِي بِلَيْلَتِهِ” ؛ أغمز: أي أدلكها لمرض أصابها. أي واحد يبر أمه والآخر بطاعة ربه فكان يرى أن بر أمه أعظم من طاعة ربه!!

عباد الله: إن من بر الإسلام ورفقه بالمسنين أن حث أتباعه على الإحسان إلى أصدقاء الوالدين وبرهم وودهم والرفق بهم ولا سيما إذا كانوا في سن الشيخوخة؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ الأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ؛ وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ؛ وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ؛ فَقَالَ ابْنُ دِينَارٍ فَقُلْنَا لَهُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ إِنَّهُمْ الأَعْرَابُ وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ؛ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ؛ وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ” إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ ” .( مسلم ).

وبلغ الأمر ببعض السلف أنه كان يسافر ليصل صديق أبيه . فقد روى أحمد في مسنده عن يُوسُف بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ؛ فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ أَخِي مَا أَعْمَدَكَ إِلَى هَذَا الْبَلَدِ أَوْ مَا جَاءَ بِكَ؟! قَالَ قُلْتُ: لا إِلا صِلَةُ مَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ وَالِدِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ!!

فهذه إحدى صور رعاية المسنين في الإسلام ، فحين يزور أفراد المجتمع أصدقاء آبائهم فإنهم يساعدون على دمج المسن في المجتمع والقضاء على العزلة التي يشعر بها ، وبالتالي التخفيف من التغيرات الاجتماعية والنفسية التي يمر بها المسن .

عباد الله: اعلموا أن الجزاء من جنس العمل في البر والعقوق؛ فمن بر أمه بره أبناؤه؛ ومن عق أمه عقه أبناؤه؛ فكما تدين تدان. وإليكم هذه القصة: روى أن العوام بن حوشب قال : نزلت مرة حيا وإلى جانب ذلك الحي مقبرة ، فلما كان بعد العصر انشق منها قبر فخرج رجل رأسه رأس حمار وجسده جسد إنسان فنهق ثلاث نهقات ثم انطبق عليه القبر ، فإذا عجوز تغزل شعرا أو صوفا فقالت امرأة : تري تلك العجوز ؟ قلت : ما لها ؟ قالت تلك أم هذا ، قلت وما كان قضيته ؟ قالت كان يشرب الخمر فإذا راح تقول له أمه : يا بني اتق الله إلى متى تشرب هذا الخمر ؟ فيقول لها : إنما أنت تنهقين كما ينهق الحمار ؛ قالت فمات بعد العصر ، قالت فهو يشق عنه القبر بعد العصر كل يوم فينهق ثلاث نهقات ثم ينطبق عليه القبر ” .(الأصبهاني وحسن القصة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب).

أحبتي في الله: تعالوا بنا ننزل إلى أرض الواقع لنقف ونطوف سريعاً مع واقعنا المعاصر وما يحدث فيه من عقوق وموت الضمائر والقلوب.

هذه قصة واقعية يرويها أحدهم قائلاً: كنت على شاطئ البحر فرأيت امرأة كبيرة في السن جالسة على ذلك الشاطئ تجاوزت الساعة الثانية عشرة مساءً ؛ فقربت منها مع أسرتي ونزلت من سيارتي .. أتيت عند هذه المرأة , فقلت لها : يا والدة من تنتظرين ؟!

قالت : انتظر ابني ذهب وسيأتي بعد قليل … يقول الراوي : شككت في أمر هذه المرأة .. وأصابني ريب في بقائها في هذا المكان !! الوقت متأخر ولا أظن أن أحد سيأتي بعد هذا الوقت !!…يقول : انتظرت ساعة كاملة ولم يأت أحد … فأتيت لها مرة أخرى فقالت : يا ولدي .. ولدي ذهب وسيأتي الآن!! يقول : فنظرت فإذا بورقه بجانب هذه المرأة . فقلت : لو سمحت أريد أن اقرأ هذه الورقة . قالت : إن هذه الورقة وضعها ابني وقال : أي واحد يأتي فأعطه هذه الورقة. يقول الراوي : قرأت هذه الورقة … فماذا مكتوب فيها ؟

مكتوب فيها : ( إلى من يجد هذه المرأة الرجاء أن يأخذها إلى دار العجزة والمسنين ). عجباً لحال هؤلاء !!

وهذه قصة ثانية: امرأة عجوز ذهب بها ابنها إلى الوادي عند الذئاب يريد الانتقام منها , وتسمع المرأة أصوات الذئاب , فلما رجع الابن ندم على فعلته فرجع وتنكر في هيئته حتى لا تعرفه أمه .. فغير صوته وغير هيئته …فاقترب منها. قالت له يا أخ : لو سمحت هناك ولدي ذهب من هذا الطريق انتبه عليه لا تأكله الذئاب!!..يا سبحان الله!! … يريد أن يقتلها وهي ترحمه خوفاً عليه من الذئاب!!

أيها المسلمون: لا تظنون أن هذه القصص ضربٌ من الخيال؛ والله في البيوت أعظم من ذلك , واسألوا المحاكم وزوروا المستشفيات ودور المسنين ترون العجب العجاب !!

والله إن كثرة العقوق في المجتمع دليل وبرهان وعلامة على قرب قيام الساعة كما جاء في حديث جبريل عليه السلام في قوله:” فَأَخْبِرْنِي عَنْ السَّاعَةِ؟ قَالَ مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ!! قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا؟ قَالَ: أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا”. (البخاري ومسلم).

قال الحافظ ابن حجر في معنى تلد الأمة ربتها:” أن يكثر العقوق في الأولاد فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة بالسب والضرب والاستخدام ؛ فأطلق عليه ربها مجازا لذلك . أو المراد بالرب المربي فيكون حقيقة ، وهذا أوجه الأوجه عندي لعمومه ؛ ولأن المقام يدل على أن المراد حالة تكون مع كونها تدل على فساد الأحوال مستغربة . ومحصلة الإشارة إلى أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور بحيث يصير المربى مربيا والسافل عاليا ، وهو مناسب لقوله في العلامة الأخرى أن تصير الحفاة ملوك الأرض .”(فتح الباري).

نسأل الله أن يستخدمنا لخدمة آبائنا وأمهاتنا ؛ وأن يجعلنا من أهل البر والعون والإحسان ؛؛؛

 الدعاء،،،،                                                            وأقم الصلاة،،،،                 

كتبه : خادم الدعوة الإسلامية

                                                                                                           د / خالد بدير بدوي  

اظهر المزيد

admin

مجلس إدارة الجريدة الدكتور أحمد رمضان الشيخ محمد القطاوي رئيس التحريـر: د. أحمد رمضان (Editor-in-Chief: Dr. Ahmed Ramadan) تليفون (phone) : 01008222553  فيس بوك (Facebook): https://www.facebook.com/Dr.Ahmed.Ramadn تويتر (Twitter): https://twitter.com/DRAhmad_Ramadan الأستاذ محمد القطاوي: المدير العام ومسئول الدعم الفني بالجريدة. الحاصل علي دورات كثيرة في الدعم الفني والهندسي للمواقع وإنشاء المواقع وحاصل علي الليسانس من جامعة الأزهر.

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »